0

سيرة حياة الشاعر أبو دلامة

من هو الشاعر الذي هجا نفسه وأمه وزوجتهالشاعر أحمد مطرنشأة أبي دلامة وحياتهأبو دلامة؛ اسمه زند بن الجون وهو شاعر ساخر من الكوفة، كان من الموالي لرجل من رجال بني أسد، وعاش في عصر الدولة الأموية والدولة العباسية، وبدأ يتألق في ظِلّ الدولة العباسية عندما قربّه السفاح إليه، وكانت فيه دعابة وفكاهة جعلته خفيف الظل فاتخذه هو والمنصور والمهدي نديمًا.يُظَن بأنّ هناك تحريفًا وقع في اسمه؛ ذلك أنّ اللغة العربية في بداية عهدها كانت تُكتب بدون تنقيط، ولِندرة اسم "زند" عند العرب، فهناك من كتبه "زبد" بالباء، وكذلك "زيد" بالياء، إلا أنّ الأرجح هو "زند".اختلف العلماء حول سر كنيته "أبي دلامة"، فقيل أنّه كُنِّيَ بذلك نسبةً لابنه البكر الذي يُسمى دلامة، أو كُنِّيَ بهذه الكنية نسبةً إلى جبل "دولامة" الموجود في مكة وهو جبل شديد السواد، ويذهب معظم المترجمين إلى أنّ الشاعر توفي سنة 161هـ، وقيل بأنّه عاش في عصر هارون الرشيد (149هـ – 193هـ).

صفاتأبي دلامةعُرف أبو دلامة بمجموعة من الصفات التي تميزت بها شخصيته وانعكست على شعره، وهي كالآتي:سرعة البديهة وجواب الخاطرإذ عُرِفَ بمقدرتهعلى الرد والتخلص الفَكِه، وتُعدالأبيات الشعرية التي هجا فيها نفسهأنموذجًا صادقًا فكهًا على أساليب التهكم بالذات، وقد تخلص من خلاله من إحراج الخليفة المهدي له، وحصل على مكافأة تعبيرًا عن رضا القوم عن حسن تخلصه من الموقف، وإعجابهم بأسلوبه الفكه الظريف.جرأة جعلت منه شخصيةً لا تعرف الجدّإذ عُرف عنه الضحك والمزاح كثيرًا في أيّ أمر من أمور الحياة، وكان الخليفة أبو جعفر المنصور متسامحًا معه، ولو أخذ بحقيقة ما يقول لأنزل فيه أشد العقاب.التسلل إلى القلوب بظرافتهكان أبو دلامة أسودًا حبشيًاصاحب نوادر فصيح الكلام، بليغ العبارات، عارفًا بأخبار الأدباء، ناظمًا للشعر، يتسلل إلى القلوب بظرافته ومواقفه الطريفة وشخصيته المرحة، فيُثير إعجاب السامعين ويُبهجهم بقصائده وحكاياته.

قدرته على الاستعطاف بسخريةكان الخليفة يُعاقب أبا دلامة بما يتناسب مع شخصيته، فكان يحبسه مع الدجاج عندما يُقبض عليه وهو سكران، فلمّا يصحو من سكره ويسمع صوت الدجاج يتعجب من الحال التي هو فيها، فيطلب مِحبرة وقرطاسًا، ويكتب إلى الخليفة شعرًا يستعطفه فيه، فيضحك الخليفة على حاله، ويخلي سبيله ويأمر له بجائزة.قصة أبي دلامة والمهديكان أبو دلامة مقربًّا إلى الخلفاء العباسيين الثلاثة الأوائل، فبعد وفاة السفاح بن علي دخل على الخليفة أبي جعفر المنصور وأنشده، وبعد خلافة المنصور، تولّى ابنه المُلقب بالمهدي الحكم، فأصبح المهدي يُفضل شعره ويستملحه ويستطيب مقالبه ونوادره،ومن قصصه معه ما يأتي ذِكره:خرج المهدي يومًا برفقة علي بن سليمان إلى الصيد، فظهر لهما قطيع من الظباء، فأُرسلت الكلاب، وجرت الخيول، فرمى المهدي السهم، فصرع الظبي، ورمى علي بن سليمان، فقتل كلبًا منها،فقال أبو دلامة:قَد رَمَى المَهديُّ ظَبياًشَكَّ بالسَّهم فؤادَهوَعَلِيُّ بنُ سُلَيمَانَ رَمَى كَلباً فَصَادَهفَهَنِيئاً لَهُمَا كُلُّامرِئٍ يأكُلُ زادَهفضحك المهدي حتى كاد أن يقع من فوق السرج، وقال: صَدَقَ والله أبو دلامة، وأمر له بجائزة رفيعة.حضر أبو دلامة إلى المهدي، وهو يبكي، فسأله المهدي ما به، فقال: ماتت أم دلامة، وأنشده لنفسه فيها:وَكنَّا كَزَوجٍ مِن قَطَا في مَفَازَةٍلَدَى خَفضِ عَيشٍ ناعِمٍ مُونِقٍ رَغدِفأفرَدَني رَيبُ الزَّمَانِ بِصَرفِهِولم أرَ شيئاً قَطُّ أوحَشَ مِن فَردِفأمر المهدي أن يُعطى الثياب، والطيب، والدنانير، وفي يوم دخلت زوجته أم دلامة على الخيزران وهي زوجة المهدي، فأعلمتها أنّ أبا دلامة مات، فأعطتها مثلما أُعطي، فلما التقى المهدي والخيزران عرفا حيلتهما، فجعلا يضحكان منها.

لما قدم المهدي من الريّ إلى بغداد دخل عليه أبو دلامة ليهنئه بقدومه، فاقترب منه المهدي، فقال: كيف أنت يا أبا دلامة؟ قال: يا أمير المؤمنين:إنّي نَذَرتُ لَئِن رَأَيتُكَ سَالِماًبِقُرى العِرَاقِ وأنتَ ذُو وَفرِلَتُصَلِّيَنَّ على النَّبيِّ مُحَمَّدٍوَلَتَملأَنَّ دَرَاهماً حِجريقال المهدي: أما الأولى فنعم، وأما الثانية فلا. فقال: جُعِلت فداك، إنّهما كلمتان لا فرق بينهما. فقال المهدي آمرًا: يُملأ حجر أبي دلامة بالدراهم، فقعد، فمُلِئ حجره بالدراهم. فقال المهدي: قم الآن يا أبا دلامة. فقال: يتخرق قميصي يا أمير المؤمنين حتى أشيل الدراهم وأقوم، فردَّها إلى كيسها ثم قام.سمات شعر أبي دلامةعُرف شعر أبي دلامة بمجموعة من السماتتُشير إلى انعكاس سخريته وهجائه على أدبه، ومنها الآتي:الفكاهة والسخريةيُعتبر شعر أبي دلامة من النوع الفكاهي الساخر الذي يعكس شخصيةً مرحةً، فمعلوم أنّ الشاعر صاحب نوادر ومقالب فريدة من نوعها، وهذا القالب الذي وضع فيه شعره اتخذه فيما بعد الشاعر ابن الرومي قالبًا يُحتذى به.تنوع الأغراض الشعريةمعظم شعر أبي دلامة في المدح، والهجاء، والخمر، والدعابة، وليس فيه وصف للرياض، أما القول بأنّ أبا دلامة يُداخل الشعراء ويُزاحمهم في جميع فنونهم، وينفرد في وصف الشراب، والرياض، ففيه مبالغة ظاهرة.

الفصاحة وعدم التكلفيمتاز شعره بالفصاحة، والسلاسة، والبعد عن التكلف، والتصنّع، ووحشيّ الكلام، وهذا ما فرضته طبيعة الشاعر التي تميل إلى الدعابة، والفكاهة، والهجاء المبطن، وهذا ما يجعل الألسنة تُرددّه، ويجعل النقاد يصفونه بالملاحة والظرافة.تعدد مصادره الأدبيةكان شعر أبي دلامة متفرقًا في عدة مصادر أدبية وتاريخية، مثل: كتاب الأغاني، ومختار الأغاني، ووفيات الأعيان، وطبقات الشعراء، وغيرها، مما نتج عنه محاولة المؤرخين والعلماء جمع شعره.السخرية في شعر أبي دلامةلجأ أبو دلامة إلى الهجاء والسخرية في شعره بشكل ملحوظ؛ وذلك لحسه المفعم بالحيوية وطبيعته الفكاهية الساخرة لدرجة أنّه تعدى هجاء الناس إلى هجاء أقربائه كابنته، وزوجته، حتى أنّ أمه لم تسلم من لسانه، بل تعدى ذلك إلى هجاء نفسه.

على سبيل السخرية في شعره، ذهب إلى وصف والدته بالعجز والهزال، إذ يقول:هاتِيكَ والِدَتي عَجُوزٌ هِمَّةٌمِثلُ البليَّةِ دِرعُها في المِشجَبِمَهزُولَةُ اللَّحيَينِ من يَرَها يَقُلأبصَرتُ غُولاً أو خَيَالَ القُطرُبِكما قام بهجاء زوجته قائلًا:لَيسَ في بَيتِي لِتَمهِيدِ فِراشِي مِن قَعيدَهغَيرُ عَجفَاءَ عَجُوزٍسَاقُها مِثلُ القَدِيدَهوَجهُهَا أقبَحُ مِن حُوتٍ طَرِيٍّ في عَصِيدَهما حَيَاةٌ مَعَ أُنثَىمِثلَ عِرسِي بِسَعِيدَهأبو دلامة يهجو نفسهيُروى أنّ أبا دلامة دخل يومًا على الخليفة المهدي، الذي كان يتعمد إحراجه ليتفكه بأساليبه المضحكة، وقدرته على التخلص، وكان عنده جماعة من أشراف بني هاشم، فقال له المهدي: لئن لم تهج واحدًا ممن في البيت لأقطعنَّ لسانك أو لأضربن عنقك.فنظر الحاضرون إلى أبي دلامة، وهو يغمز كل واحد منهم كلما نظر إليه، بأنّ عليه رضاه، فقال أبو دلامة: فعلمت أنّي قد وقعت، وأنّها عزمة من عزماته ولا بدّ منها، فلم أرَ أحدًا أحق بالهجاء مني، ولا يسلمني من هذا الأمر إلا هجاء نفسي،فقلت:ألا أبلغ لَدَيكَ أبَا دُلامَهفَلَيسَ مِنَ الكِرامِ وَلا كَرَامَهإذا لَبِسَ العِمَامَةَ كانَ قِرداًوَخِنزِيراً إذا نَزَعَ العِمَامَهجَمَعتَ دَمَامةً وجَمَعتَ لُؤماًكَذَاكَ اللُّومُ تَتبَعُهُ الدَّمَامَهفإن تَكُ قَد أصَبتَ نَعِيمَ دُنيَافلا تَفرَح فَقَد دَنَتِ القِيامَهفتعالت ضحكات القوم، ولم يبقَ من الحاضرين أحدٌ إلا أجازه، ويظهر من هذه الأبيات أنّ أبا دلامة لا يتحرج من وصف نفسه بالخنزير إذا نزع عمامته، أو بالقرد إذا لبسها، وهذا وإن كان يحمل دلالة التهكم على الذات، إلا أنّه يعكس فنيًّا مدى قدرته على توليد الصور التي تنفر السامع، عندما يتطلب المعنى ذلك.طرائف أبي دلامةأبو دلامة والخوارجيُروى أنّ أبا دلامة خرج في جيش روح بن حاتم، فدفعه روح لمبارزة أحد الخوارج، فطلب أبو دلامة أن يعفيه، ولكن روحًا أصرَّ، وعندما التقيا حدثه أبو دلامة قائلًا: أتقتل من لا يُقاتلك؟ قال: لا. فقال: أتستحل أن تقتل من على دينك؟ قال: لا. فاذهب عني إلى لعنة الله، فقال أبو دلامة: إنّ معي زادًا أريد أن آكله، وأريد مُؤاكلتك لي؛ لتتوكد المودة فأكلا، وانصرف كلٌّ إلى معسكره.

خرج رجل من الخوارج يدعو للمبارزة، فطلب روح من أبي دلامة الخروج لمبارزته،فأنشد شعرًا فكاهيًّا يعبر عن مدى جبنه:إنّي أَعُوذُ بِرَوحٍ أن يُقَدّمَنِيإلى البِرازِ فَتَخزَى بي بَنُو أَسَدِإنّ البِرَازَ إلى الأقرَانِ أعلَمُهُمِمَّا يُفرِّقُ بَينَ الرُّوحِ والجَسَدِإنَّ المُهَلَّبَ حُبَّ المَوتِ أَورَثَكُموَمَا وَرِثتُ اختِيارَ المَوتِ عَن أحَدِلَو أنَّ لي مُهجَةً أُخرَى لَجُدتُ بِهَالكِنَّها خُلِقَت فَرداً فَلَم أجُدِأبو دلامة والمنصورمن حكاياته الطريفة مع الخليفة أبي جعفر المنصور أنّه تأخر عن الحضور بباب الخليفة ثم حضر، فأمر المنصور بإلزامه بالصلاة في مسجده، ووكل من يُراقبه، فمرَّ به الوزير، فقام إليه أبو دلامة ورفع رقعةً مكتوبةً، وقال: هذه ظلامة لأمير المؤمنين، فأوصِلها أعزّك الله إليه بخاتمها.فأخذها الوزير فلما دخل على أبي جعفر، أوصلها إليه، فقرأها فإذا فيها:أَلَم تَرَيَا أنَّ الخَلِيفَةَ لَزَّنيبِمَسجِدِهِ والقَصرِ ما لي ولِلقَصرِوكَلَّفَني الأولى جميعاً وعَصرَهافَويلي من الأُولى وعولي مِنَ العَصرِوواللهِ ما لي نِيَّةٌ في صلاتهِولا البِرُّ والإحسانُ والخَيرُ مِن أمريوَمَا ضَرَّهُ واللهُ يغفِرُ ذَنبَهُلَوَ أنّ ذُنوبَ العَالَمينَ على ظَهرِيفضحك المنصور وأمر بإحضاره، فلما حضر قال: هذه قصتك؟ قال: دفعت إلى أبي أيوب "الوزير" رقعةً مختومةً أسأل فيها إعفائي من لزوم ما أمرني بلزومه، فقاله المنصور: اقرأها، قال: ما أحسن أن أقرأ، وعلم أنّه إن أقرَّ بكتابته لها، أقام المنصور عليه الحد؛ لِذكر الصلاة وتعريضه بها.فلما رآه يحيد من ذلك قال له الخليفة: يا خبيث، أمّا لو أقررت بذلك لضربتك الحد، لقد أعفيتك من لزوم المسجد، فقال أبو دلامة: أو كنت ضاربي يا أمير المؤمنين لو أقررت، فقال له: نعم، قال أبو دلامة: مع قول الله عز وجل: "يَقُولُونَمَا لَا يَفْعَلُونَ"فضحك منه وأُعجب من انتزاعه ووصله.

مختارات من شعر أبي دلامةقال أبو دلامة معزيًّا بوفاة المنصور، ومهنئًا المهدي بتوليه الخلافة:عَينَانِ وَاحِدةٌ تُرَى مَسرُورَةًبإمَامِها جَذلَى وأُخرَى تَذرِفُتبكي وَتَضحَكُ مَرَّةً وَيَسُوؤهاما أبصَرَت وَيَسُرُّها ما تَعرِفُفَيَسُوؤها مَوتُ الخَلِيفةِ مُحرِماًويَسُرُّها أن قامَ هذا الأَرأفُما إن رأيتُ وَلا سَمِعتُ كما أرَىشعراً أرَجِّلُهُ وآخَرَ أنتِفُهَلَكَ الخلِيفةُ يا لأُمَّةِ أحمَدٍفَأتَاكُمُ مِن بَعدِهِ مَن يَخلُفُأهدَى لهذا اللهُ فَضلَ خِلافَةٍوَلِذاكَ جَنَّاتِ النَّعيم تُزَخرَفُفَابكُوا لِمَصرَعِ خَيرِكُم وَوَلِيِّكُمواستَشرِفُوا لِمَقَامِ ذا وتَشَرَّفُواقال أبو دلامة عندما أفاق ووجد نفسه مسجونًا مع الدجاج بعد أن أمر الخليفة أبو جعفر المنصور بذلك:أمير المؤمنين فدتك نفسيعلام حبستني وخرقتَ ساجيأمن صهباء ريح المسك فيهاترقرقَ في الإناءِ لدى المزاجِعقار مثل عين الديك صرفٌكأن شعاعها لهب السراجِوقد طبخت بنار الله حتىلقد صارت من النطف النضاحِتهشُّ لها القلوبُ وتشتهيهاإذا برزت ترقرق في الزجاجِأقاد إلى السجون بغير جرمٍكأني بعض عمالِ الخراجِولو معهم حُبست لكان سهلاًولكني حُبست مع الدجاجِدجاجاتٌ يطيف بهن ديكٌيناجي بالصياحِ إذا يناجيوقد كانت تخبرني ذنوبيبأني من عقابك غيرُ ناجيعلى أني وإن لاقيت شرًّالخيرِك بعد ذاكَ الشرِّ راجيقال يهجو أحد رؤساء ديوان الرسالة في العصر العباسي وهو عليّ بن صالح:لِعَلِيِّ بنِ صَالِحِ بنِ عَلِيّحَسَبٌ لَو يُعِينُهُ بِسَمَاحِومَواعِيدُهُ الرِّيَاحُ فَهَل أنتَ بِكَفَّيكَ قَابِضٌ للرِّياحِوَبَنُو صَالِحٍ كثِيرٌ وَلكِنما لَنَا في عَدِيدهِم مِن صَلاحِغَيرَ فَضلٍ فإنَّ لِلفَضلِ فَضلاًمُستَبِيناً على قُرَيشِ البِطَاحِ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *