0

ما هو شعر الزهد

شعر الزهد في العصر العباسيخصائص شعر الزهدتعريف بشِعر الزُّهْديعرّف الزُّهْد لُغةً بأنّه القدر اليسير من الشيء، وزهِد عن الشّيء أو زهِد في الشّيء: أي أعرض عنه وتركه خوفاً من العقاب والحساب؛ تحرُّجاً منه أو احتقاراً له، والزّاهد: هو العابد، والرّاغب عن الدُّنيا، والمُنصرِف إلى الآخرة، فلا يفرح إن ملك الدُّنيا ولا يحزن على عدم امتلاكها،أمّا الزُّهْد اصطلاحاً: فهو الابتعاد عن المعصية، وعمّا يُبعد المرء عنالله، ممّا هو زائد عن الحاجة، أو هو الإعراض عن أمور الدُّنيا كافّة، وذلك بتطهيرالقلب، وهو مُصطلح أشمل منالورعوالقناعة، والزُّهد يتضمّن المعنى الروحيّ والماديّ والأخلاقيّ؛ لقوّة الرّابطة بينهم، فلا يزهد المرء في أمور دُنياه مع مُمارسته لما حرّمه الله، فلا معنى للزُّهد بلا اجتماع الفِكر والرّوح.يُعدُّ شِّعر الزُّهد من الألوان الأدبيّة التي تحمل معانٍ سامية للرّوح على عكس بعض الأشعار الأخرى، حيث يتناول الحياة الدُّنيا باعتبارها داراً زائلةً مع الابتعاد عن ملذّاتها، ويُوجّه النّاس نحو الحياة الأبديّة باتّباع المناسك والعبادات، وقد تحدّث ابن خلدون عنه في مُقدّمته، فقال: "فلمّا فشا الإقبال على الدُّنيا في القرن الثّاني وما بعده، وجَنَح النّاس إلى مخالطة الدُّنيا، اختصّ المُقبِلون على العبادة باسم الصُّوفيّة والمُتصوّفة"، ويُشير كذلك أنّ هذه الجماعة اختصّت لنفسها هذا النّوع الأدبيّ منالشِّعرمبتعدين بذلك عن الأشعار التي يُقبِل عليها عوام النّاس، وما تتّسم به من بذخٍ ومالٍ، ومناصبٍ، ومُنصرفين عن الخَلْق بعبادة الخالق.مراحل تطوّر شِعر الزُّهْدمرّ الزّهد بمراحل انتقاليّة ساهمت في نشأة التّصوف الذي سعى فيه شعُراؤه إلى الوُصول إلى الله، والاهتمام بالتّعرُّف على أسرار تتعلّق بالخالق، وإيجاد وسيلةٍ مناسبةٍ للمناجاة الإلهية، والتي تُشبه أشعار الغزل الإلهيّللحلّاج، وفي النقاط الآتية توضيحٌ للمراحل الانتقاليّة التي مهّدت لتطوّر شِعر الزّهد:العصر الجاهليّيمكن تقسيمالعصر الجاهليّبحسب تطوّر شعر الزهد على مراحل كالآتي:بداية العصر الجاهليّ:كان الشِّعر في هذه المدّة يأتي إمّا على شكل أبيات فرديّة ضمن قصيدةٍ تختصّ بموضوعٍ ما، أو أن يكون شعراً مُتفرِّقاً على هيئة عِبَرٍ وحِكَمٍ، ناتجة من عُمق التّأمُلّات والتّجارب، والتي غالباً ما كانت تتناول الحديث عنالموتوعمّا يحدث بعده.

أواخر العصر الجاهليّ:بدأت في هذه المرحلة علامات التّغير العقديّ، بظهور دينٍ جديدٍ في شبه الجزيرة العربيّة، ويظهر ذلك جلِّياً في بعض قصائد شُعراء تلك المدّة، والتي كانت تحمل معانٍ قريبة من المعاني المتعلّقة بالدِّين الإسلاميّ، حيث ظهر ما يسمى بشعراء التعبد، مثل عدي بن زيد، والذي اشتُهر بشعر الموعظة والتذكير، بالإضافة إلى شعراء المتحنّفين، وهم الذي بقوا على دين سيدناإبراهيم، ومنهم: إبراهيم المأمور الحارثيّ، وأكثم بن صيفيّ، وزيد بن عمر بن نُفيل، وورقة بن نوفل، وأبو القيس الرّاهب، وأميّة بن الصّلت.العصر الإسلاميّتُعرّف فترة العصر الإسلامي بأنّها الفترة التي بدأت من عهد الرسول محمد عليه السلام وامتدّت حتى خلافة عثمان بن عفان، وقد تميّز الشعر في بدايته بمحدوديته، إلا أنّه وبعد فترةٍ من الوقت ظهرت العديد من الأشعار التي تُدافع عنالإسلاموتسعى لنشره، وتدعو إلى الأمر بالمعروف والنّهي عن المُنكر، وتذكّر بالجزاء عقاباً وثواباً، إضافةً إلى الأشعار التي اختصت بالمدح النبويّ، ومن شُعراء المديح حينها: النّابغة الجعديّ، وكعب بن زُهير،وحسّان بن ثابت، وبعد ظهور العديد من الفتن، أصبح النّاس ينصرِفون إلى العبادة، وتركها لله، فوجد الزّاهدون أنفسهم يلجأون إلى القرآن الكريم، والسُّنّة النّبويّة؛ هُروباً من القضايا السّياسيّة العامّة التي تحمل صراعاً مذهبيّاً وفساداً أخلاقيّاً؛ لذلك سعى الذين يدعون إلى الله إلى تعليم النّاس وتذكيرهم بأهميّة تطبيق الشّريعة الإسلاميّة.العصر العبّاسيّتطوّر شِعر الزُّهد في هذه المرحلة؛ حيث ظهر الكثير من الشعراء الذين عَمَدوا إلى ترك الدُّنيا، والتّفرُّغ للعبادة؛ وذلك كردّة فعل على حركةالزّندقةالتي شاعت بين النّاس حينها، ويجدر بالذِّكر أنّ الشُعراء تفرّغوا بشكل كامل للزُّهد، فلم يتطرّقوا إلى شيء غيره، وأدخلوا فيه الفلسفة والحكمة، الأمر الذي مَهّد لظهور شِعر التّصوف لاحقًا، ومن شُعراء هذا العصرأبو العتاهيّةالذي يُصوّر الآخرة، وما يحدث فيها من أهوال، بالإضافة إلى أبيات تحمل العظة، وتُعنَى بتقلُّبات الأزمان،وأبو نوّاسأيضاً، والذي عُرف بشِعر المُجون، إلا أنّه في آخر حياته تاب إلى الله، وظهر ذلك واضحاً في أشعاره، فكانت أشعاره تحمل زهداً نقيّاً خالصاً.

عوامل ظهور شِعر الزُّهْدإنّ أول ظهور لشِعر الزُّهد بحسب ما يقول الدّكتور إحسان عبّاس في كتابه تاريخ الأدب الأندلُسيّ كان أثناء الثّورة على الحُكم الرّبضيّ عام 206هـ، وكان الشِّعر حينها يُنظَم من قِبل الأتقياء من الشُّعراء، ويُشيرُ الدّكتور إحسان إلى أنّهم كانوا يُضيفون إلى أشعارهم شيئاً من المُفردات التي تُدينأنظمة الحُكموقتها، واستدلّ الدكتور في كلامه إلى ما قاله المراكشيّ عند تناوله موقف الزُّهاد من النّظام الرّبضيّ للحُكم، وبعد ظهور شِعر الزُّهد في القرن الثّاني، وتطوّره في مراحل لاحقة؛ نتيجة مجموعةٍ من العوامل التي تتعلّق بالجوانب السّياسيّة، والاجتماعيّة، والثّقافيّة، برز شُعراء الزُّهد، ويظهر هذا في تسلسُل مواضيع الأشعار بحسب العامل المؤثر فيها، فكانت الأشعار بدايةً تتناول الحديث عنالنّفس البشريّة، والحياة، والحُكّام، وتقّلب الأحوال، ثمّ انتقلت إلى جانب الموعظة إلى أمور الدُّنيا، والحثّ على العبادة، وطاعة الله، وفيما يأتي أهمّ العوامل المؤثّرة في ظهور الزُّهد:العامل الاجتماعيّإنّ لهذا العامل أشكالاً وأصنافاً من السّلوكيات التي ترتبط به، ومنها: الانشغال بأمور الحياة، والبذخ خاصّةً في الطّبقات الحاكمة، وظهور الّلهو في المجالس، والشّراب، وانتشار السّرقات، والفساد في البيوع، وغيرها من الأمور التي شهدهاالعصر العباسيّ، والتي ساهمت بدورها في ظهور مجموعةٍ جعلوا لأنفُسهم قراراً خاصّاً تجاهها، فنبذوا كلّ الغايات الدُّنيويّة، وطالبوا بالعودة إلى الالتزام بالدِّين، والقيم الإسلاميّة العُليا، بالإضافة إلى اتّباع نهج الرّسول -صلى الله عليه وسلّم-، والصّحابة -رضوان الله عليهم-.العامل الثّقافيّيتمثّل العامل الثقافيّ باختلاط العرب المُسلمين بعد القرنين الثّاني والثّالث في الحياة الفكريّة والثّقافيّة للدوّل المُختلفة مع الاطّلاع على ثقافتهم، مثل: اليونانيّة، والفارسيّة، والهنديّة، بالإضافة إلى ظهور حركات التّحرّر والفتوحات،والتّرجمة، ودخول المُسلمين في مراحل تُعنى بالأبحاث والعلوم، وبسبب انحياز كلّ ثقافةٍ إلى رأيها نشأتالفلسفة، ما أدى إلى ظهور حالة من الاندماج بين الفلسفات الغربيّة والعربيّة وحضاراتهم، ممّا مهّد طريقاً للزُّهاّد ليستفيدوا من هذه الحركة الفِكرية والثّقافيّة؛ لتكون زاداً لهم في كتابة أشعارهم الرّوحيّة المليئة بالعِبرة والموعِظة.العامل الذّاتييعتمد هذا العامل على اتّخاد العزلة سبيلاً للابتعاد عن كلّ ما هو محظورٌ أو حرامٌ؛ حِفاظاً على أنفسهم وتحلِّياً بالعِفة، فذهب منهم إلى مناطق خالية؛ خشية ارتكاب المعاصي، إلا أنّ ذلك لم يمنعهم من ممارسة أعمالهم، أو أن يخرجواللجهادإذا تطلّب ذلك، ومن الأسباب التي جعلتهم يتّخذون هذا نهجاً لهم: الخوف ممّا ذُكِر في القرآن الكريم عن اليوم الآخر وعذاب جهنّم، والشّعور بالحُزن والهمّ بعد ارتكاب المعاصي، ليقضوا حياتهم في التّوبة والاستغفار.

خصائص شِعر الزُّهْديمتلك شعر الزّهد العديد من الخصائص التي تعكس مواضيعه وجمالياته العامة، ومن أهمّ ما يميز أتباع هذا المنهج التزامهم بمنهج دينيّ مستقيم، رافضين الدنيا وشهواتها، ويذكر من خصائص شعر الزهد ما يأتي:يغلب على شعر الزهد الطابع التعليمي، حيث يقصد أنصار هذا النوع من الشعر النصح والإرشاد، وبذلك يقول البهلول في عهد الخليفة الرّشيد:دعِ الحِرص على الدّنياوفي العيش فلا تطمعْولا تجمعْ مِنَ المالفلا تدري لِمن تجمعْالإكثار من ذِكر الموت؛ لكونه آخر ما سيَؤول إليه المرء، وأنّ لا قدرةللإنسانعلى ردّه، حيث يقول أبو العتاهية في ذلك:أَنْســاكَ مَحْياكَ المماتافَطَلَبْتَ في الدُّنيا الثَّباتاوَثِقْـتَ بالدُّنيا وأَنْــتَ تَرى جَماعَتَها شَتاتَاهَـلْ فِيهما لكَ عِبْـرةٌأَمْ خِلْتَ أنَّ لكَ انْفِلاتايا من رأى أبَوَيهِ فيـما قَد رأى كانا فماتاسهولة المُفردات، وبساطة الأسلوب، وهذه الخاصيّة جعلت من شِعر الزُّهد يُشبه إلى حدٍّ ما الكتابة النّثريّة أوالخُطبةالواعظة، ويظهر ذلك واضحاً في أشعار أبي نوّاس، وأبي العتاهيّة، الذي كان يرى أنّ شِعر الزُّهد يجب أن يكون بألفاظ سهلة؛ لأنّه موجّه لعامّة النّاس، فقال في الزّهد إنّه: "ليس من مذاهب الملوك ولا مِن مذاهب هُواة الشِّعر ولا طُلّاب الغريب"، ومِن قِصصه أنّه مرّة لقيه مَسلمة بن الوليد، فنَقد شِعره، متبعاً ذلك بأبيات يقصد فيها الإشارة إلى بساطة مُفردات شِعر أبي العتاهية، وهذه هي:الحمد و النعمة لكوالملك ال شريك لكلبيك إنك الملكثمّ ذكر مَسلمة بعد ذلك أنّه لو فعل وكتب بأسلوب أبي العتاهية لكتب عشرة آلف بيت، ثمّ أتبعَ قوله بأبيات مليئة بالمُفردات الصّعبة، وهي:موفٍ على مُهجٍ في يوم ذي رَهَجٍكأنّهُ أَجَلٌ يسعى إلى أملِإلّا أنّ أبي العتاهية ردّ عليه قائلاً: " قل مثل قولي، أقل مثل قولك".التأثّربالقُرآن الكريم، وأساليبه، ومِثال ذلك أبيات أبي العتاهية التي تأثّر فيها بالآية الكريمة: (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ)، وفيما يلي الأبيات:يا عجباً كُلُّنا يَحيد عن الحنينوكلٌّ لحنينه لاقيكأنّ حيّاً قد قام نادِبُهوالتّفّت السّاق منها بالسّاقكثرة الأبيات في القصيدة أحياناً، ويشتهر أبو العتاهية في ذلك، خاصّة بعد نظمه قصيدة "بذات الأمثال" المكوّنة من أربعة آلاف بيت، وتتميّز هذه القصيدة بوحدةالقافيةفي صدر أبيات القصيدة فقط، ومن أبياتها:حسبُك ما تبتغيه القُوتما أكثر القُوت لِمن يموتالفقر فيما جاوز الكِفافامن اتّقى الله رَجا وخافاالحفاظ على وِحدة البنية للقصيدة؛ لتكون على أساس غرض الزُّهد من أول القصيدة إلى آخرها.استخدام الأوزان الشِّعريّة القصيرة، والمجزؤة فيبحور الشِّعر؛ للتناسب مع أهداف الزُّهد، فمثلاً عمد أبو العتاهية إلى استخدام وزن مجزوء بحور الكامل، والوافر، والبسيط، والرّمل، كذلك الشّاعران أبو نوّاس وابن المبارك.

استخدام الصُّور الفنيّة البسيطة، والتي تُناسب غرض شِعر الزُّهد، وفي الوقت نفسه تكون ذات طابع مُبتكر يجعل السّامع لها يندمج معها.المُباشرة في التّعبير مع الابتعاد عن الصُّور، والمجازات، وهذه الخصيصة جعلت النّاس يقبلون على شِعر الزُّهد؛ فالمعنى يتمّ إيراده بلا غُموض أو تعقيد.أمثلة على شِعر الزُّهْدفيما يلي بعض الأمثلة والمواقف التي استدعت شعراء الزهد قول بعض الأبيات:توجيه النّاس إلى الزُّهد في أمور الدُّنيا الزّائلة وملذّاتها. والتّأكيد على أنّها ليست دار قرار، مِثل قول أبي العتاهية:إنّما الدُّنيا غُرور كُلُّهامِثل لمع الآل في الأرض القِفارالدّعوة إلىالتّوبةوالاستغفار، ويظهر ذلك فيمن عاشوا جزءاً من حياتهم في المُجون، وأشهرهم أبو نوّاس، وممّا قاله بعد توبته:أدعوك ربّي كما أمرت تضرُّعاًفإذا رددت يدي فمن ذا يرحم؟

إرشاد النّاس، وتقديم الموعظة لهم؛ للابتعاد عن الدُّنيا وحوائجها، ويكون ذلك بقِصص القُرآنوالسُّنّة النّبويّة، مع سِير الصّحابة والتّابعين، كقول ابن المُبارك:الصّمت أزين بالفتىمن منطق في غير حينهوالصّدق أجمل بالفتىفي القول عندي من يمينهالاستعانة بالله، والرِّضا بتقسيمه أقدار العِباد، كقول ابن المُبارك:أرى أُناساً بأدنى الدّين قد قنعواولا أراهم رضوا بالعيش بالدُّونِالتحذير والتّنبيه من الموتوالآخرة، كقول عمرو بن المغيرة:هبْ أنّك قد ملكت الأرض طرّاًودان لك البلادُ فكان ماذاأليس غداً مصيرك جوف تربٍويحثتو الترب هذا ثمّ هذاالتّطرُّق للحديث عنالجّنة والنّار، كما قال الورّاق:يا غافلاً ترنو بعيني راقدومشاهداً للأمرغير مشاهدتصل الذنوب الى الذنوب وترتجيدرك الجنان بها وفوز العابدحثّ النّاس على الصّبر في أمور الدُّنيا، وما يُرافقها من قِلّة الرِّزق، كقولهم:ولو قدّم أحزم في أمرهلعلّمه الصّبر عند البلاأبرز شُعراء الزُّهْدينقسم شُعراء الزُّهْد إلى قسمين، وذلك بحسب تطرُّق الزُّهد إلى حياتهم، وهما: الشُّعراء الزّاهدون منذ نشأتهم، مثل: عبد الله بن المبارك، ومحمّد بن كناسه، ومحمود الورّاق،والإمام الشّافعي، والخليل بن أحمد، والقسم الثاني فهم الشُّعراء الزّاهدون التّائبون بعد المُجون، يُذكر منهم: أبو العتاهية، وأدام بن عبد العزيز، وأبو نوّاس، ومحمّد بن يسير الرّياشيّ.رابعة العَدويّةهي أكثر الشّاعرات الزّاهدات شُهرةً، وتتميّز برِقة مشاعر الحُبّ الإلهيّ، وعُذوبة ألفاظه الذي تنقله إلى أشعارها، فتصف الخالق بأنّه حبيبُها مع دوام مُناجاتها له، وأنّ خاطرها مشغول به دائماً، كما أنّه الوحيد الذي يعلم بما في قلبها، وتؤكّد رابعة من خلال شِعرها أنّ قلبها مُتعلّق بالذّات الإلهيّة، وكان هذا نهجُها في الزُّهد، فهي تتعمّق في محبّة الخالق محبّة ينشأ معها اتّصال روحيّ بالله، فهي وإن جلست في حضرة النّاس، بقي قلبُها مع الله، وقد مهدت رابعة للتجديد في الشعر الصوفيّ، ومن أشعارها:أحبّكَ حُبّيْن حُبَّ الهَوىوحُبّاً لأنّكَ أهل لِذَاكافأمّا الذي هو حُبُّ الهَوىفَشُغْلِي بذكركَ عَمَّنْ سِواكاوأمّا الذي أنتَ أهل لهفَكشفُك للحُجب حتّى أراكافلا الحمدُ في ذا وذاكَ ليولكنْ لكَ الحمدُ في ذا وذاكاأبو العتاهيةهو من الشُّعراء الذين تحوّلوا منشِعر الغزلإلى شِعر الزُّهد والتّصوّف؛ لأسباب اجتماعيّة، وشخصيّة، ويذكر أبو سلمة الغنوي أنّه سأل أبو العتاهية عن سبب تحوّله إلى الزُّهد، فأخبره أنّه عندما قال أبياتاً في الغزل، حلُم حُلُماً أشعره أنّ ما يقوم به معصية للخالق، وتاب من حينها عن قول الغزل، وكانت أبياتهُ تلك:الله بيني وبين ومولاتيأبدت لي الصّد والملاماتمنحتها مُهجتي وخالصتيفكان هجرانها مُكافآتيهيمنها حُبّها وصيّرنيأُحدوثة في جميع جاراتينظم أبو العتاهية في الزُّهد قصيدة طّويلة يكشف فيها تجربة الحبّ التي مرّ بها، وكيف كانت سبباً في تغيُّره، وتظهر فيها فلسفته في الحياة بعد الذي ذاقه منها، ويتضّح جليّاً العزم في كلامه، والمشاعر الصّادقة، وممّا قال فيها:قطعت منك حبائل الأمالِوحططت عن ظهر المطيِّ رحاليو يئست أن أُبقي لشيء نلت ممّافيكِ يا دنيا و أن يبقى ليفوجدت برد اليأس بين جوانحيوأرحت من حَلِّي و من ترحاليولئن يئست لرُبّ بَرْقةِ خُلَّبٍبَرَقَتْ لذي طمع و بَرْقة آلما كان أشأم، إذ رجاؤك قاتليوبنات وعدك يعتلجن بباليفالآن يا دنيا عرفتك فاذهبييا دار كلّ تشتت وزوالِوالآن صار لي الزمان مؤدباًفغدا عليّ وراح بالأمثالِوالآن أبصرت السّبيل إلى الهدىوتفرغت همّمي عن الأشغالولقد أقام لي المشيب نعاتهيُفضي إليّ بمفرق وقذالِولقد رأيت الموت يبرق سيفهبيد المنيّة حيث كنت، حياليولقد رأيت عُرا الحياة تخرّمتولقد تصدّى الوارثون لماليولقد رأيت على الفناء أدلةفيما تنكر من تصرف حاليوإذا اعتبرت رأيت خطب حوادثيجرين بالأرزاق والآجالِوإذا تناسبت الرّجال، فما أرىنسباً يُقاس بصالح الأعمالِعبد االله بن المباركمن أكثر شُعراء الزُّهد الذي اشتُهِروا بزُهدهم وورعهم، فكان يُقبِل سنة إلىالحجّ، ثمّ سنة إلى الجهاد، وقال فيه سُفيان الثّوري: "لو جهدت جهدي أن أكون في السّنة ثلاثة أيّام على ما عليه ابن المبارك لن أقدر". وكان ممّن يُضرب المَثل فيهم بأنّهم لا يفصلون الحياة العامّة عن الزُّهد، فكان يعمل بالتّجارة، ويُنفق الكثير من أرباحه على أصحاب الحاجة من فقراء وطُلّابالعلم، وهذا لم يمنعه من الابتعاد والخلوة مع نفسه، وله أشعار تسيل رِقّة وحُسناً وفصاحةً سواء كان ذلك بالألفاظ أو المعاني، ويُبغِض في أشعاره متاع الحياة الدُّنيا الزّائل وملاهيها، والتّذكير بالآخرة، كما أظهر جانباً للدُّعاة الذين يعفّون أنفسهم عن المناصب الدّوليّة، بالإضافة إلى الجمع بين العبادة والجهاد والموازنة بينهما، فيرى أنّ كِلاهما يُقدّمان شيئاً لله، فالعابد دُموعه، والمُجاهد دماؤه، ومن أشعاره:ياعابد الحرمين لو أبصرتنالعلمت أنّك في العبادة تلعبمن كان يخضب جيده بدموعهفنحورنا بدمائنا تتخضبأو كان يُتعب خيله في باطلفخيولنا يوم الصّبيحة تتعبأبو نـوّاسهو الحسن بن هاني، وهو من الشُّعراء الذين سبق لهم المُجون والاستهانة بأمور الدّين قبل تحوّلهم للزُّهد؛ إذ تم اتّهامه بالزّندقة، وبعقيدته حتّى سُجن في عهد الرّشيد والأمين أكثر من مرّة، وبعد شعوره بالذّنب حِيال ما قام به في ريعان شبابه تاب إلى الله، وطلب المغفرة منه، وهذا ما جعل أشعاره غارقة في الشّعور بالنّدم والذّنب، فكان بذلك المُوجد لقواعد شِعر النّدم والتّوبةوالاستغفار، كما يستخدم في أشعاره أسلوباً عقليّاً مُقنعاً فيما يطرحه، ومن أشعاره في هذا الباب:أراك يزيدك الإثراء شوقاًإلى الدّنيا كأنّك لا تموتتظلّ على الغنى أبداً حريصاًتخاف فوات شيء لا يفوتوأغنى منك ذو طمرين راضٍمن الدّنيا يبلغه ما يفوت

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *