0

تطور مفهوم الوطن في الشعر العربي

مفهوم الوطن عند الشعراءمفهوم الوطن العربيمفهوم الوطن في الشعر العربييعدّ الوطن أوّل وسيلة يلجأ إليها الشاعر العربيُّ للتّعبير عن مشاعره الجيّاشة سواء كانت هذه المشاعر فرحًا أو حزنًا أو حنينًا. فهومرآة تعكس لنا الحالة الاجتماعيّة والسّياسيّة المحيطة به في مختلف الأزمنة، وربّما يعود الفضل لللشعر في معرفتنا للكثير من الطروف التي كانت في مختلف العصور ومن خلال ذلك يمكننا رصد مفهوم الوطن في مختلف العصور الأدبية وتطوره.اتّخذ مفهوم الوطن في الشعر العربي أنماطًا متعددة اختلفت باخلاتف هذا العصر والبيئة التي تحيط بالشاعر بمعطياتها المختلفة، والظروف الاجتماعية والدينية والسياسية والاقتصادية، إضافة لخصوصية ظرف هذا الشاعر نفسه وما يعتريه من مشاعر تجاه وطنه، وما يمر به من تجارب انعكست -بالضرورة- على فكره وبالتالي على الأدب الذي كتبه.مفهوم الوطن في العصر الجاهلياتّخذ مفهوم الوطن في العصر الجاهلي حيّزًا ضيّقًا إذ لم يكن هنالك "وطن" بالمعنى الحقيقي للكلمة الذي ندركه اليوم، وانحسر مفهومه بمعانٍ قليلة كانت على النحو التالي:النزعة القبلية والانتماء للعشيرةمثَّل الوطن بصورة رئيسية المكان الذي جاء منه الشاعر والذي ينتمي إليه حتى الموت، ويعتز به، ويعتز بالقبيلة ويحتمي بها ويحميها ويشعر اتجاهها بالولاء المطلق الذي لا رجوع عنه. إذ اقتصر مفهوم الوطن عند الشاعر الجاهلي بالقبيلة والولاء المطلق لها وحمايتها والانحياز لأفرادها بصورة مطلقة.

يقولعمرو بن كلثومفي معلقته:لَنا الدُنيا وَمَن أَمسى عَلَيهاوَنَبطِشُ حينَ نَبطِشُ قادِريناسَمّى ظالِمينَ وَما ظُلِمناوَلكِنا سَنَبدَأُ ظالِميناسَقَيناهُم بِكَأسِ المَوتِ صِرفوَلاقوا في الوَقائِعِ أَقوَريناونَعدو حينَ لا يُعدى عَلَيناوَنَضرِبُ بِالمَواسي مَن يليناتنادى المُصعَبانِ وَآلُ بَكرٍونادوا يا لَكندة أجمعينافَإِن نَغلِب فَغَلّابونَ قِدماًوَإِن نُغلَب فَغَيرُ مُغَلَّبينامَلأْنا الَبرَّ حتّى ضاقَ عَنَّاوَنَحْنُ البَحْرُ نَمْلأُه سَفِيناإذا بَلَغَ الفطامَ لَنا ولِيْدٌتَخِرُّ له الجَبَابِرُ سَاجِدِيناالطّلل والحنين إلى الديار القديمةوقد تمثَّل ذلك في الحنين إلى الوطن والشعور به من خلال الاستهلال بذلك في مطلع قصائدهم وما انطوى عليه ذلك من ذكريات ومواقف امتزج بها الشوق بالحنين إلى هذه الأماكن المهجورة. فالإنسان في العصر الجاهلي كان كثير التنقل والاترحال؛ إما بسبب الحروب أو بسبب الجفاف أو القحط مما كان يترك في قلبه حرقة الانتقال عن الديار وفراق المحبوبة والأهل.فالشاعر الجاهلي كثير التنقل والارتحال وبذلك كانت صورة الوطن لديه مرتبطة بشكل مباشر وحالة الشوق والحنين إلى الديار القديمة التي ارتحل عنها. وفي ذلك يقولامرؤ القيس:قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيْبٍ وَمَنْزِلِبِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِفَتُوْضِحَ فَالمِقْرَاةِ لم يَعْفُ رَسْمُهَالِمَا نَسَجَتْهَا مِنْ جَنُوبٍ وَشَمْأَلِتَرَى بَعَرَ الأرْآمِ في عَرَصَاتِهَاوَقِيْعَانِهَا كَأَنَّهُ حَبُّ فُلْفُلِكَأَنِّيْ غَدَاة َ البَيْنِ يَوْمَ تَحَمَّلُوالَدَى سَمُرَاتِ الحَيِّ نَاقِفُ حَنْظَلِوُقُوْفًا بِهَا صَحْبِيْ عَليََّ مَطِيَّهُمْيَقُولُونَ لا تَهْلِكْ أَسًى وَتَجَمَّلِوَإِنَّ شِفَائِيْ عَبْرَةٌ مَهَراقَةٌفهل عندَ رسْمٍ دارسٍ من معوَّلالوطن مرآة لما يشعر بهاتّخذ الشاعر الجاهلي من الوطن مرآة تعكس الحالة النفسية والعاطفية التي يمر بها وما يؤرّقه من هموم وقضايا؛ فقد عكس الحالة السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تمر بها المجتمعات من حوله. فالوطن هو الحاضنة التي تحمل كل ما تعتري الإنسان الجاهلي من هموم وقضايا وأفراح وأحزان وكل ما يشعر به.يقولعمرو بن كلثوم:تَذَكَّرتُ الصِبا وَاِشتَقتُ لَمّارَأَيتُ حُمولَها أُصُلاً حُدينافَأَعرَضَتِ اليَمامَةُ وَاِشمَخَرَّتكَأَسيافٍ بِأَيدي مُصلِتيناأَبا هِندٍ فَلا تَعَجَل عَلَيناوَأَنظِرنا نُخَبِّركَ اليَقينابِأَنّا نورِدُ الراياتِ بيضاًوَنُصدِرُهُنَّ حُمراً قَد رَويناوَأَيّامٍ لَنا غُرٍّ طِوالٍعَصَينا المَلكَ فيها أَن نَديناوَسَيِّدِ مَعشَرٍ قَد تَوَّجوهُبِتاجِ المُلكِ يَحمي المُحجَريناتَرَكنا الخَيلَ عاكِفَةً عَلَيهِمُقَلَّدَةً أَعِنَّتَها صُفوناوَأَنزَلنا البُيوتَ بِذي طُلوحٍإِلى الشاماتِ تَنفي الموعِديناوَقَد هَرَّت كِلابُ الحَيِّ مِنّاوَشذَّبنا قَتادَةَ مَن يَلينامَتى نَنقُل إِلى قَومٍ رَحانايَكونوا في اللِقاءِ لَها طَحينايَكونُ ثِفالُها شَرقِيَّ نَجدٍوَلُهوَتُها قُضاعَةَ أَجمَعينامفهوم الوطن في العصر الإسلاميأخذ مفهوم الوطن يتسع في هذه الفترة ويتخذ معنا لم تكن في العصر السابق، ومن ذلك ما يأتي:المكان الذي يتلاءم وتعاليم الدين الإسلاميكان لنزول الوحي والدين الإسلامي وما جاء به من تعاليم أثرًا كبيرًا على منظومة المجتمع في تلك الفترة لا سيما لمن دخل الإسلام وآمن بالرسول -صلى الله على وسلم- إذ أثر ذلك بصورة جذرية على منظومة التفكير لدى الفرد وانتقل الإنسان من النزعة القبلية التي سيطرت عليه في العصر الجاهلي إلى لنظرة أكثر شمولية انعكست على نظرته للوطن والآخر.

عزّز الإسلام قيم العدالة بين الناس وأصبح التفاضل فيما بينهم على أساس التقوى والفضيلة، وبذلك سعوا لتأسيس الوطن الذي يلبي هذه القيم ويتناسب مع تعالم الدين الإسلامي وضوابطه، ومن ذلك نجد مثلًا كيف احتفى أهل المدينة بقدوم الرسول -صلى الله عليه وسلم- والمهاجرين من المسلمين لتأسيس وطن يحقق مفاهيم الدين الإسلامي، وأنشدوا:طلع الـبدر عليـنا مـن ثنيـات الوداعوجب الشكـر عليـنا مـا دعــــا لله داعأيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطـاعجئت شرفت المديـنة مرحباً يـا خير داعقد لبثنا ثوبَ عزّ بعد تمزيق الرِّقاعربَّنا صلِّ علي من حلَّ في خير البقاعِشعور الغربة في الوطنتجلّى هذا المعنى في بداية هذه الفترة عند نزول الإسلام وإيمان عدد قليل من الناس دون غيرهم؛ فالشاعر الذي دخل الإسلام حديثًاوامتثل لأوامره شعر بحالة من الاضطهاد والغربة في ظل الظروف المحيطة بهم والتضييقات التي كانوا يتعرضون لها. وذلك إضافة لحالة من الاغتراب من الحنين التي شعروا بها في بدايات تلك الفترة للأيام التي خلت حتى وإن تعارضت مع قيمهم الحالية.يقولكعب بن زهير:بانَت سُعادُ فَقَلبي اليَومَ مَتبولُمُتَيَّمٌ إِثرَها لَم يُجزَ مَكبولُوَما سُعادُ غَداةَ البَينِ إِذ رَحَلواإِلّا أَغَنُّ غَضيضُ الطَرفِ مَكحولُهَيفاءُ مُقبِلَةً عَجزاءُ مُدبِرَةًلا يُشتَكى قِصَرٌ مِنها وَلا طولُتَجلو عَوارِضَ ذي ظَلمٍ إِذا اِبتَسَمَتكَأَنَّهُ مُنهَلٌ بِالراحِ مَعلولُمفهوم الوطن في العصر الأمويمع اتساع رقعة الدولة الإسلامية وبدء التأسيس الحقيقي لمفهوم الدولة ازداد تغني الشعراء بالوطن، وتعدّدت الصور الفنية والأساليب الإبداعية التي استخدمها الشعراء، ومن ذلك:المكان الذي يستقَر بهأصبحكل مكان يحل به الفرد هو وطن له، ويحتفي ويتغنلى به؛ فازدهار العمران وحالة الرخاء التي أصبح يعيش بها الفرد في دولة مدنية ساهمت في تكثيف الحالة الإبداعية لديه ومدّه بأساليب فنية جديدة وصور إبداعية لم يكن يعرفها من قبل في الجاهلية وانعكس كل ذلك على شعره.يقولقيس بن الملوح:أَلا حَبَّذا نَجدٌ وَطيبُ تُرابِهاوَأَرواحُها إِن كانَ نَجدٌ عَلى العَهدِأَلا لَيتَ شِعري عَن عُوارِضَتَي قَنالِطولِ التَنائي هَل تَغَيَّرَتا بَعديوَعَن أُقحُوانِ الرَملِ ما هُوَ فاعِلٌإِذا هُوَ أَمسى لَيلَةٌ بِثَرىً جَعدِهو الموطن الأصليالوطن هو المكان الأول الذي يسكنه الإنسان مهما سكن أو ارتحل بعد ذلك وعاش في قصور واستمتع برغد العيش والرفاهية يبقى حنينه لوطنه الأول ومسقط رأسه.

تقولميسون بنت بحدل:لَبَــيْـتٌ تـخـفِـقُ الأرواحُ فـيـهأحــبُّ إليَّ مــن قــصــرٍ مُــنـيـفِوأصــواتُ الريــاحِ بــكــل فَــجٍّأحــبُّ إلي مــن نَــقْـر الدُّفـوفِوبـكْـرٍ يـتْـبَـعُ الأظْـعـانَ صَـعْبٌأحـــبُّ إلى مـــن بَــغْــلِ زَفُــوفِوكــلبٌ يــنــبـح الطُـرَّاق عـنّـيأحـــــبُّ إليَّ مـــــن قِــــطٍّ ألوفِولُبْــسُ عــبـاءةٍ وتـقَـرُّ عـيْـنـيأحــبُّ إليَّ مــن لِبْــسِ الشُّفــوفِوأكْـلُ كُـسَـيْـرَة فـي كِـسْرِ بَيْتيأحــبُّ إليَّ مــن أَكْــلِ الرَّغـيـفِوخَــرْقٍ مِـن بـنـي عـمـي نـحـيـفِأحـــبُّ إليَّ مـــن عِــلْجٍ عــليــفِخشونَةُ عِيشتي في البدْو أشهىإلى نـفـسي من العيشِ الظَّريفِفـمـا أبْـغـي سوى وطني بديلًافـحـسـبـي ذاكَ مـن وطـن شـريِـفمفهوم الوطن في العصر العباسيللوطن في العصر العباسي معان أكثر شمولية وأكثر جمالية في طرق التعبير عنها في الشعر العباسي، وذلك على النحو التالي:الوطن هو الموطن الأصلييرتبط الوطن بأرض المنشأ الأولى التي يحبها الشاعر وينتمي لها في حالة من الشوق الملتهب والحنين المتَّقِد لها؛ فهي مسقط رأسه وعلى امتداد العصور المختلفة بقيت هذه الفكرة راسخة في الذهن وثابتة لا تتغير. وقد تفنّن الشعراء في هذا العصر في تجسيد الذكريات المتعلقة بالأيام الخاوالي والحنين الشديد للوطن.يقولأبو تمام:نَقِّل فُؤادَكَ حَيثُ شِئتَ مِنَ الهَوىما الحُبُّ إِلّا لِلحَبيبِ الأَوَّلِكَم مَنزِلٍ في الأَرضِ يَألَفُهُ الفَتىوَحَنينُهُ أَبَداً لِأَوَّلِ مَنزِلِهو المكان الذي يعيش فيهبعتبَر العصر العباسي من أكثر العصور ازدهارًا وتحضّرًا بحيث مثّل قفزة نوعية في كل جوانب الحياة عن العصور السابقة وأهم ما ميّز هذا العصر حالة الامتزاج بين الأمم المختلفة وقد أصبح المكان الذي يسكنونه هو موطنهم ودارهم، وبذلك تغنى الشعراء. إذ ارتبط مفهوم الوطن بالمكان الذي يعيش به الفرد وبذلك تجسّد الانتماء، والانتقال من دائرة الفرد الذاتية إلى روح المجتمع والتجسيد الفعلي لمفهوم الوطن .يقولالمعري:فـيـا بَرْق ليس الكَرْخُ داري وإنمارَمــانـي إليـه الدهـرُ مُـنْـذُ لَيـالالاغتراب في أرض الوطنالشعور في الاغتراب في أرض الوطن من المفاهيم التي كانت سائدة بصورة كبيرة في تلك الفترة تبعًا لتعدد الأمم والأجناس في الدولة العباسية، وتعدد الثقافات المختلفة، والحالة الفكرية الفلسفية التي كانت سائدة آنذاك والتي عزّزت الشعور بالعزلة والاغتراب.

يقول الشاعرعلي بن الجهم:وَاِرَحمَتا لِلغَريبِ في البَلَدِ النازِحِ ماذا بِنَفسِهِ صَنَعافارَقَ أَحبابَهُ فَما اِنتَفَعوابِالعَيشِ مِن بَعدِهِ وَلا اِنتَفَعاكانَ عَزيزاً بِقُربِ دارِهُمُحَتّى إِذا ما تَباعَدوا خَشَعايَقولُ في نَأيِهِ وَغُربَتِهِعَدلٌ مِنَ اللَهِ كُلُّ ما صَنَعامفهوم الوطن في العصر الأندلسيانعكست بيئة الأندلس على روح الشاعر العربي وشعره بطبيعتها الجذابة وجمالها الأخاذ، فاختلفت المفردات التي استخدمها الشاعر في وطف الوطن والحديث عنه وعن عناصره، ومن المفاهيم التي حملها الوطن في العصر الأندلسي ما يأتي:الحنين للموطن الأصلييظهر في شعر الشاعر العربي في هذا العصر حالة متأججة من الحنين للوطن الأصلي لهم، وربما يعود ذلك للطريقة التي هاجر بها هؤلاء من أوطانهم وصولًا للأندلس إلى جانب الغربة التي يشعرون بها. ويذكَر من ذلك أن عبد الرحمن الداخل – صقر قريش- عندما رأى في الأندلس نخلة وهو في طريقة استذكر وطنه، وأثارت الحنين لديه فأخذ يقول:تــبــدت لنـا وسـط الرصـافـة نـخـلةتـنـاءت بأرض الغرب عن بلد النخلفـقـلت شـبـيـهـي في التغرب والنوىوطـول التـنـائي عـن بني وعن أهلينــشــأت بـأرض أنـت فـيـهـا غـريـبـةفمثلك في الإقصاء والمنتأى مثليسقتك غوادي المزن من صوبها الذييـسـح ويـسـتـمـري السماكين بالويلارتبط الوطن بالقيمة الجمالية لهتغنّى الشعراء في العصر الأندلسي بجمال الوطن وطبيعته الخلابة وبذلك ارتبط مفهوم الوطن لديهم بالقيمة الجمالية لديه، والعناصر الجمالية التي يتضمنها فهي قيمة حية ملموسة.يقولابن خفاجة:وَصَقيلَةِ الأَنوارِ تَلوي عِطفَهاريحٌ تَلُفُّ فُروعُها مِعطارُعاطى بِها الصَهباءَ أَحوى أَحوَرٌسَحّابُ أَذيالِ السُرى سَحّارُوَالنورُ عِقدٌ وَالغُصونُ سَوالِفٌوَالجِذعُ زَندٌ وَالخَليجُ سِوارُبِحَديقَةٍ ظَلَّ اللِمى ظِلّاً بِهاوَتَطَلَّعَت شَنَباً بِها الأَنوارُرَقَصَ القَضيبُ بِها وَقَد شَرِبَ الثَرىوَشَدا الحَمامُ وَصَفَّقَ التَيّارُغَنّاءَ أَلحَفَ عِطفَها الوَرَقُ النَديوَاِلتَفَّ في جَنَباتِها النُوّارُفَتَطَلَّعَت في كُلِّ مَوقِعِ لَحظَةٍمِن كُلِّ غُصنٍ صَفحَةٌ وَعِذارُرثاء الوطنوهي صورة مميزة في الحديث عن الوطن في العصر الأندلسي إذ ارتبطت صورة الوطن وهو في فترة ضعف بحالة من الحزن والغصة سيطرت على الشعراء عند الحديث عن الوطن وارتبطت به، ولعل أشهر ما قيل في ذلك قصيدة أبو البقاء الرندي في وصف الأندلس.يقولأبو البقاء الرندي:لِكُلِّ شَيءٍ إِذا ما تَمّ نُقصانُفَلا يُغَرَّ بِطيبِ العَيشِ إِنسانُهِيَ الأُمُورُ كَما شاهَدتُها دُوَلٌمَن سَرّهُ زَمَن ساءَتهُ أَزمانُوَهَذِهِ الدارُ لا تُبقي عَلى أَحَدٍوَلا يَدُومُ عَلى حالٍ لَها شانُيُمَزِّقُ الدَهرُ حَتماً كُلَّ سابِغَةٍإِذا نَبَت مَشرَفِيّات وَخرصانُوَيَنتَضي كُلَّ سَيفٍ للفَناء وَلَوكانَ ابنَ ذي يَزَن وَالغِمد غمدانُمفهوم الوطن في العصرين المملوكي والعثمانيغلب على هذه الفترة شعر الحماسة الفخر والحماسة وكان لصورة الوطن حظ وفير من ذلك، وعملت الأحداث السياسية المتتابعة في تلك الفترة دورًا كبيرًا في ذلك، وتعدّدت الأنماط الشعرية في ذلك نذكر منها:يقولشهاب الدين أبو شامة:غلب التتار على البلاد فجاءهممن مصر تركي يجود بنفسهبالشام أهلكهم وبدد شملهمولكل شيء آفة من جنسهمفهوم الوطن في العصر الحديثاتّخذ مفهوم الوطن في العصر الحديث أنماطًا متعددة فكرية وفلسفية مميزة، وحملت دلالات مكثّفة في بنيتها وأبعادها الفلسفية والثقافية. وفي سياق الحديث عن مفهوم الوطن في العصر الحديث يمكن حصر ذلك في ثلاثة محاور رئيسية كبرى تنطوي كل منها على معانٍ جزئية متعددة، وذلك على النحو التالي:مفهوم الوطن في الوطن نفسهتعدّدت المفاهيم التي تحملها مفهوم الوطن في الشعر العربي الحديث بحيث اشتمل على كل المفاهيم التي كانت في العصور السابقة أضافة لحالة من التّغني للأوطان بأسمائها وهويتها الجديدة التي باتت واضحة ومحددة في العصر الحديث والانتماء لها؛ ويعود ذلك للسمات الجديدة التي حملها العصر الحديث بصورة جلية دون غيره من العصور السابقة.

ساهمت نشأة الدول المدنية الحديثة بما حملته من طابع مميز بعكس حالة من الولاء الواضح للقطر الذي ينسَب الشاعر إليه، وظهر مفهوم جديد ارتبط بأشعار المناسبات المرتبطة بالمناسبات الوطنية المحددة لهذه الدولة، وفيما يلي بعض من هذه النماذج:التغني بالوطن والانتماء الشديد إليه؛ وفي ذلك يقولإبراهيم طوقان:موطني الجَلالُ وَالجَمالُالسَناءُ وَالبَهاءُ في رُباكوَالحَياةُ وَالنَجاةُوَالهَناءُ وَالرَجاءُ في هَواكهَل أَراكسالماً منعّماًوَغانِماً مكرّماًهَل أَراكفي عُلاكتبلغ السماكموطِنيمَوطِني الشَباب لَن يَكلَّهمُّهُ أَن تَستقلَّ أَو يَبيدنَستَقي مِن الرَدىوَلَن نَكون لِلعِدى كَالعَبيدلا نريدالتمسّك بالعروبة والقومية العربية والتّغني بذلك، والتّحسر على ما أصاب الأوطان. وفي ذلك يقولنزار قباني:هل في العيون التونسية شاطيءترتاح فوق رماله الأعصاب؟أنا يا صديقة متعب بعروبتيفهل العروبة لعنة وعقاب؟أمشي على ورق الخريطة خائفافعلى الخريطة كلنا أغرابالمرأة (المحبوبة) وطن؛ إذ امتزجت صورة المحبوبة وذابت في صورة الوطن. وفي ذلك يقولنزار قباني:قادم من مدائن الريح وحـديفاحتضني ،كالطفل، يا قاسيونأهي مجنونة بشوقي إليها.

..هذه الشام، أم أنا المجنون؟

إن تخلت كل المقادير عنيفبعيـني حبيبتي أستعيـنجاء تشرين يا حبيبة عمريأحسن وقت للهوى تشرينولنا موعد على جبل الشيخكم الثلج دافئ.. وحنـونسنوات سبع من الحزن مرتمات فيها الصفصاف والزيتونشام.. يا شام.

. يا أميرة حبيكيف ينسى غرامـه المجنون؟شعور الغربة في الوطن؛ يقولالأخوين رحبانيهذه الكلمات:أنا يا عصفورة الشجنمثل عينيك بلا وطنِبِي كما بالطفل تسرقهأول الليل يد الوَسَنِواغتراب بي وبي فرحٌكارتحال البحر بالسفنأنا لا أرضٌ ولا سكنٌأناعيناك هما سكنيراجع من صوب أغنيةيا زمانا ضاع في الزمنصوتها يبكي فأحملهبين زهر الصمت والوَهَنِمن حدود الأمس يا حلماًزارني طيراً على غُصُنِأيُّ وهمٍ أنت عشْتُ بهكُنْتَ في البالِ ولم تَكُنِمفهوم الوطن في الغربةوتمثّل ذلك في صورة الوطن المحمولة في القلب بما في ذلك من ذكريات ومواقف، والحنين الشديد إليه ووصف عناصره وكل ما يميزه من معالم وصفات. وتعدّدت النماذج الشعرية في ذلك بكل ما امتازت به من سلاسة في الوصف وحرفة في التصوير والتناص وغير ذلك من الأساليب الإبداعية.يقولبدر شاكر السيابفي حديثه عن وطنه العراق في الغربة:الريح تلهث بالهجيرة كالجثام، على الأصيلوعلى القلوع تظل تطوى أو تنشّر للرحيلزحم الخليج بهنّ مكتدحون جوّابو بحارمن كل حاف نصف عاريوعلى الرمال، على الخليججلس الغريب، يسرّح البصر المحيّر في الخليجويهدّ أعمدة الضياء بما يصعّد من نشيجأعلى من العبّاب يهدر رغوه و من الضجيج"صوت تفجّر في قرارة نفسي الثكلى: عراقكالمدّ يصعد، كالسحابة، كالدموع إلى العيونالريح تصرخ بي عراقوالموج يعول بي عراق، عراق، ليس سوى عراق ‍‍البحر أوسع ما يكون و أنت أبعد ما يكونوالبحر دونك يا عراقبالأمس حين مررت بالمقهى، سمعتك يا عراقوكنت دورة أسطوانةهي دورة الأفلاك في عمري، تكوّر لي زمانهفي لحظتين من الأمان و إن تكن فقدت مكانههي وجه أمي في الظلاموصوتها، يتزلقان مع الرؤى حتى أناموهي النخيل أخاف منه إذا ادلهمّ مع الغروبفاكتظّ بالأشباح تخطف كلّ طفل لا يؤوبمن الدروبوهي المفليّة العجوز وما توشوش عن حزاموكيف شقّ القبر عنه أمام عفراء الجميلةفاحتازها.

. إلا جديلةمفهوم الوطن في ظل الأزمات والحروبلعلّ هذا المعنى تجلّى بصورة رئيسية لدى الشعراء الذين عانوا من الاحتلال أو الحروب وويلاتها في أوطانهم، وتبرز بصورة كبيرة لدى الشاعر الفلسطيني الذي عانى من ويلات الاحتلال على مدار هذا الكم من السنوات فارتبط معنى الوطن لديه بهذه الذاكرة، وأخذ يؤرّخ لذلك في شعره معبِّرًا عن حزنه وألمه على وطنه.فقد أصبح الوطن مرادفًا لهذه الذاكرة وشاهدًا على كل ما يحدث فسعى الشاعر لتأريخ هذه الأحداث المفصلية ويرثي أبناء وطنه الذي اعتبرألمهم ألمه وحزنهم حزنه؛ ومن ذلك قولمحمود درويش:وطني يا أيّها النسر الذي يغمد منقاره اللهبفي عيوني،أين تاريخ العرب؟كل ما أملكه في حضرة الموت:جبين وغضب.

وأنا أوصيت أن يزرع قلبي شجرةوجبيني منزلا للقبّرة.وطني، إنّا ولدنا و كبرنا بجراحكوأكلنا شجر البلّوط..

كي نشهد ميلاد صباحكأيّها النسر الذي يرسف في الأغلال من دون سببأيّها الموت الخرافي الذي كان يحبلم يزل منقارك الأحمر في عينّيسيفًا من لهب..وأنا لست جديرًا بجناحككل ما أملكه في حضرة الموت:جبين.

. وغضب!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *